Page 21 - نشرة زاجل الإلكترونية - العدد 56 - كانون الثاني / يناير 2022
P. 21

‫‪21‬‬                                                                                                                ‫العدد ‪ - 56‬كانون الثاني ‪ /‬يناير ‪2022‬‬
                                                                                                                  ‫‪zajel@dohainstitute.edu.qa‬‬
           ‫مراجعات‬

‫تقــول لها صديقتها‪" :‬لقد أضع ِت فتر َة التن ُّفس على‬    ‫منــه‪ ،‬وكل مــا كانت تفكر فيه ليــس حبها لـ"توم"‪،‬‬         ‫تُهيِّؤه لتبادل الإشــارات والرموز طوال الوقت حول‬
‫تــوم"‪ ،‬فبوصولهــا الثلاثين تكون تجــاوزت العمر‬         ‫وإنما كيف تتف َّوق علــى ذكائه؟! وكيف تُع ِّوده عليها‬     ‫رغباتهم وتفضيلاتهم بلباقة تعفيهم من مناقشــة‬
‫الذي بوســعها فيه أن تتباطأ وهــي مطمئنة إلى أن‬         ‫وتُح ِّوله إلى خطيب ثم إلى زوج وأب؟! لتتساءل في‬           ‫الأمــر‪ ،‬بينما كانت هي على الجانب المقابل تشــعر‬
‫ثمــة خيارات وفُر ًصا أخــرى بانتظارها‪ ،‬وأن لا بأس‬      ‫النهايــة هل هو "ال ُحب الكبير" الذي تبحث عنه أم‬
‫مــن تجرب ٍة لم تنجح في تخطي كونها تجربة حياتية‬         ‫أنه مجرد شــخص مناسب ســمح لها بأن تعمل على‬                    ‫بالعناء تجاه كل حركة تصدر منها نحو الآخر‪.‬‬
                                                        ‫علاقتهما وتطورها؟! فتحت بهذا السؤال المسكون‬               ‫فلم تســتطع أن تمنع نفســها في أي لحظة‪ ،‬رغم‬
   ‫وليس مصي ًرا شبه نهائي لشكل الحياة القادمة‪.‬‬          ‫بالقلــق نافذ ًة ل ُمراجعــا ٍت كثيفة وجريئة في حياتها‬    ‫كرهها لذلك‪ ،‬من إلقاء اللوم المستمر على تنشئتها‬
‫وقد تُرى هذه السردية مبتذلة غاية الابتذال‪ ،‬وتؤطِّر‬      ‫وحيــاة القارئ حيال كل ما ظــن أنه "حب" في يو ٍم‬          ‫الدينيــة تلــك التي خلفــت فيها من ال ُعقــد ما لم‬
‫لصــورة نمطية عن عالم المرأة‪ ،‬وهو ماجعل هذه‬                                                                       ‫تســتطع طــوال حياتهــا أن تتجاوزه‪ ،‬وفــي الوقت‬
‫الروايــة محل نقــد لاذع ضيِّق الــذرع بالرؤية التي‬                                      ‫ما من حياته‪.‬‬             ‫الــذي ق َّررت فيه أن تتوقف عــن الالتزام بتعاليمها‬
‫لــم تزل أســير ًة لهواجس الجــ َّدات ذاتها في عصر‬      ‫تُمثِّــل الرواية تكثي ًفا مخي ًفــا لكوابيس المرأة‪ ،‬وهي‬  ‫الدينية وتمارس حياتها كامرأة متحررة‪ ،‬صارت عبار ًة‬
‫تغ َّيرت فيه المعايير‪ ،‬والتي لم تزل تُس ِّوق لمفاهيم‬    ‫بذلــك تتجاوز حدود التجربــة الفردية إلى المعاناة‬         ‫عن صــورة كاريكاتوريــة لما تريــد أن تكونه‪ ،‬فلم‬
‫"الفطرة السليمة"‪" ،‬والغريزة الطبيعية"‪ ،‬ولكن ماذا‬        ‫الإنســانية التــي تجمــع نســاء العالم علــى تع ُّدد‬     ‫تعد هي تلك القديســة التي تنتظر زواجها المبارك‬
‫لو كانــت هذه الهواجس التي تبــدو تافه ًة إلى ح ٍّد‬     ‫خلفياتهــن الثقافية والدينية‪ ،‬حيــن تنفذ إلى القلق‬        ‫الذي ســيحفظ ِع َّفتهــا وطهارتها ولا هي تلك المرأة‬
‫مزعج تحكــم حياتَنــا وتتحول إلى معاناة ســرية‪،‬‬         ‫الوجــودي المرتبط ببيولوجيا جســد المرأة‪ ،‬تقول‬            ‫المتحــررة المؤمنة ح ًّقا بحريتها فــي اختيار الحياة‬
‫و َمن هذا الذي بوســعه أن يُنكر أن كثي ًرا من النســاء‬  ‫أليســون لصديقها‪" :‬لا يمكنــك أن تفهم هذا أب ًدا‪...‬‬       ‫التــي تلائمهــا‪ ،‬صارت المرأ َة التــي تحاول أن تكون‬
‫لــم يتجاوزن فكــرة الحاجة الضروريــة للآخر من‬          ‫فالتقــ ُّدم في الســن إلــى درجة عــدم القدرة على‬        ‫متحررة وهي مســكونة بهواجس الماضي‪ ،‬إلى حد‬
‫أجــل حياة طبيعية وصح َّية‪ ،‬حتــى ولو فعلن ذلك‬                                                                    ‫أنها في الوقــت الذي هجرها صديقها فيه كان أول‬
‫نظريًّا‪ ،‬إلا أنهن لم يستطعن في الواقع أن يتجاوز َن‬                 ‫إنجاب الأطفال ليست أحد همومك"‪.‬‬                 ‫ما خطر لها هو‪" :‬إذن هكذا اختار الله أن يُعاقبني"!‬
‫إحساســهن الشخصي بالنقص من ِوحدتهن‪ ،‬وأنهن‬               ‫كمــا تعبر عــن القلق الغريــب الــذي يخلقه رقم‬           ‫ولتشــعر للحظة بأن المدرســة الدينيــة كانت على‬
‫غير محبوبات أو مه َّمات لأحد على نحو شــخصي‪،‬‬            ‫"الثلاثيــن" فــي حياة المــرأة إلى حــد الحرج! ذلك‬       ‫حــق في قولها‪ ،‬فما حاج ُة "توم" إلى "البقرة إن كان‬
‫وأن ثمة حياة أخرى كاملة من السعادة التي يعيشها‬          ‫الذي يجعــل الرجال يتخ َّوفون مــن إقامة علاقات‬
                                                        ‫معها انطلاقًا من فكرة أنها في مرحلة عمرية خطرة‪،‬‬                             ‫يحصل على الحليب مجانًا"؟!‬
            ‫الآخرون قد فاتتهم بلا عزاء ولا أمل‪.‬‬         ‫ومــن ثَم فكل ه ِّمها هــو الإيقاع به في وقت قصير‬         ‫ومثَّل حدث الهجران تجل ًيا لمشــكلة نفســية أعمق‬
‫أفكــر أننــي لم أكن ســأح ُّب شــخصية "أليســون‬        ‫وإنجاب طفل منه قبل فوات الأوان‪ ،‬بينما لو كانت‬             ‫تك َّرســت طوال الســنوات التي كانت خلالها تتل َّقى‬
‫هوبكنــز" إذا كانت واحدة من دائــرة معارفي‪ ،‬فما‬         ‫أصغر في أي رقم بجانب العشــرين فســتكون هي‬                ‫تنشــئتها الدينيــة فــي طفولتها‪ ،‬تلك التــي خل َق ْت‬
‫كنت ســأحتاج لامرأة لا تمنحني أم ًل بأن بوسعي أن‬                                                                  ‫لديهــا خلــ ًا في هوية الذات‪ ،‬فلــم تعد تعرف أي‬
‫أكون وحدي‪ ،‬وأن أكون سعيدة ومرتاحة‪ ،‬وأن الأمر‬                           ‫والآخر أكثر استرخا ًء في العلاقة‪.‬‬          ‫الأشياء ينتمي إليها وأيها ينتمي إلى الآخر‪ ،‬لم تعرف‬
‫لــن يمثل أزمة حقيقية في حياتــي‪ ،‬ولم أكن كذلك‬                                                                    ‫ما هــي هويتها الخاصة كامرأة وإنســانة مســتقلة‬
‫ســأح ُّب الدراما التي تثيرها "أليسون" حولها في أن‬                                                                ‫بذاتهــا عــن الطائفــة الإنجيليــة ومواعظها‪ ،‬هذه‬
‫"يكــون المــرء هواية ذاته"‪ ،‬غير أننــي أحبب ُت ذلك‬                                                               ‫الحالــة الغريبة التي خل َق ْت لديها شــعو ًرا من عدم‬
‫الدفق الســاحر للصدق الحميم فــي كلمات هذه‬                                                                        ‫الوثوق في غرائزها كأنثى‪ ،‬وليس ذلك فحســب‪ ،‬بل‬
‫الشــخصية‪ ،‬هذا الصدق الــذي يجعل قلب الآخر‬                                                                        ‫هي لا تجد غريزتها في مكانها‪ ،‬لأنها لم تعد ســوى‬
‫شفافًا تما ًما‪ ،‬ويمنحك حق الدخول‪ ،‬دون أن تشعر‬                                                                     ‫مزيــج من القلــق والهواجس والأفــكار المتضاربة‬
‫بأيجهد شخصي بذلَتْه المؤلفة في تنظيم روايتها‪،‬‬                                                                     ‫طوال الوقت‪ ،‬كانت تتســاءل عمــا يمكن أن تفعله‬
‫حتــى لقد بدت أنها تتحــدث بانفعال طوال الوقت‬                                                                     ‫امــرأة طبيعيــة الغرائز في مكانهــا؟! وكذا لم يكن‬
‫عن نفســها هي‪ ،‬وعن مشــاكلها‪ ،‬وعن كل ما يخطر‬                                                                      ‫انهيارها بعد هجر صديقها لها ص ًدى لحالة مج َّردة‬
‫فــي بالها من هواجــس وأفكار‪ ،‬وكان لذلك أن َخلَق‬                                                                  ‫مــن المعاناة العاطفية التي يولدها الفراق‪ ،‬بل كان‬
‫واســط ًة رائعة للتواصل بين النســاء‪ ،‬تضعنا وج ًها‬                                                                ‫القلق الذي يسكن امرأ ًة تجاوزت الثلاثين عا ًما وهي‬
‫لوجه مع الكوابيس الممكنة في عالمنا الخاص نحن‬                                                                      ‫غيــر متزوجة‪ ،‬وليس لديها صديق‪ ،‬وليس لديها أي‬
‫النساء‪ ،‬وتوقظ عبر كلماتها غريز َة المرأة ثاقبة النظر‬                                                              ‫فكرة عن مســتقبلها سوى الخوف من أنها لن تنجب‬
‫ذات الخطوات الحذرة‪ ،‬المرأة التي تعيش مخاضها‬                                                                       ‫الأطفال وســتموت وحيد ًة وغيــر محبوبة‪ ،‬تنفجر‬
‫الخاص ورحلتها في البحث عن الحياة التي تريدها‪،‬‬                                                                     ‫بالبــكاء حيــن تعي قلق الســؤال بكامــل ثقله‪" :‬ما‬
‫ولا تستســلم لضعفها‪ ،‬بل تواجه العاصفة لتَخرج‬                                                                      ‫مصيري الآن؟! َمن ســأصاحب؟! وماذا ســأفعل؟!"‬
‫بأمــ ٍل لحيــاةجديدة نابضــة ومنفتحة علــى ذاتها‬                                                                 ‫إن الأمر لا يتعلق على نحو شخصي بصديقها الذي‬
‫والآخر‪ ،‬بشــعور رائع في القلب حين تُشرق شمس‬                                                                       ‫ظنــت أنــه حبها الكبيــر وإنما فــي المجهول الذي‬
‫الحياة مــر ًة أخرى ُمع ِلنة قدوم فصلجديد تذوب‬                                                                    ‫لطالمــا كانــت تخشــى التحديق فيه وج ًهــا لوجه‪،‬‬
                                                                                                                  ‫فتم َّســكت بـ"تــوم" وكأنه الســبيل الوحيد لنجاتها‬
       ‫فيه ثلوج الماضي‪ ،‬وكأنه لم يكن شتاء قط‪.‬‬
   16   17   18   19   20   21   22   23   24   25   26