Page 27 - نشرة زاجل الإلكترونية - العدد 52 - أيلول / سبتمبر 2021
P. 27

‫‪27‬‬                                                                               ‫العدد ‪ - 52‬أيلول ‪ /‬سبتمبر ‪2021‬‬
                                                                              ‫‪zajel@dohainstitute.edu.qa‬‬

‫قـد أكل مـن أطايـب الدنيـا‪ ،‬هـو كـا يقـول الثعالبـي‪" :‬قـد نجدتـه‬              ‫التحديـات كَ َمثَـ ِل فيـ ٍل أمـره الأسـ ُد أن يجـري بسرعـة الـرق ويقفـز‬
                                                                                                          ‫عــن الحواجــز؟ وإلا ينحــ ْر نفســه بنفســه؟!‬
‫مصــارف الدهــور وحنكتــه مصائــر الأمــور وعركتــه الأيــام‪ ،‬عــارف‬
                                                                              ‫أنـا متعـ ٌب‪ ،‬ض ِجـ ٌر‪ ،‬مجـروح‪ ،‬أشـعر بالإحباط والخـذلان‪ ،‬بحث ُت عـن معنى‬
‫بتدابـر الزمـان"‪ ،‬يتمنـى أن ينقطـع عـن العالَـم في هـدوء وسـكينة‬              ‫أن تمـور فيـك هـذه المشـاعر‪ ،‬ولا تسـتطيع أن تخرجهـا مـن قلبـك‬
                                                                              ‫كـا تحـ ّس بهـا‪ ،‬غـ َر أ ّن عـر ُت عـى مقاربـ ٍة قـد تكـو ُن مناسـب ًة‪،‬‬
                                                         ‫حتـى يلقـى ربـه!‬     ‫فقـد قـرأت في كتـاب (خـارج المـكا ِن) لإدوارد سـعيد أنـه لمـا قـدم‬

‫وأنـا العائـم عـى نفـي‪ ،‬المتكـ ّورة عـ ّي جراحـي‪ ،‬الـذي يعصـب‬                 ‫إلى أمــركا لقــي أســتا ًذا في المــكان الــذي يــدرس فيــه‪ ،‬وكان‬
‫رأسـه مـن شـ ّدة القلـق‪ ،‬كيـف أعـر عـى جزيـرتي؟ متـى سـأه ّش‬                  ‫قـد درس في القاهـرة مـن قبـ ُل‪ ،‬لك ّنـه لمـا رآه لم يبـ ِد أ ّي حفـاوة‬
‫بعصــا الرضــا عــى غنمــي الشــاردة‪ .‬يســتب ّد بي تفكــري‪ ،‬يرمينــي‬          ‫تجاهـه عـى الإطـاق‪" ،‬ولم ينفـر ْج َغ َضـ ٌن واحـد مـن تعبـره ال ِجلـد ّي‬
‫يمي ًنـا وشـل ًا‪ ،‬يلقـي بي في مهـاوي البـؤس‪ ،‬يضعنـي في مه ّب‬                  ‫الصـارم"‪ ،‬ثـم حـاول إدوارد أن يح ّدثـه باللغـة العربيـة لعلّهـا أن تفتـح‬
‫الريــح‪ ،‬يل ّفنــي بــرداء الجــزع‪ ،‬يســقيني مــن مــاء الانتظــار المريــض‪.‬‬
                                                                              ‫فضــا ًء واســ ًعا للتواصــل بينهــا‪ ،‬لكــ ّن الريــا َح جــرت لا كــا تشــتهي‬
‫يسـتبقي ف ّي بق ّيـة مـن قـ ّوة ثـ ّم يأخذهـا منـي عـى حـن غفلـة!‬             ‫السـفن‪ ،‬قـد قاطعـه في منتصـف عبارتـه راف ًعـا يـده اليمنـى‪" :‬لا يـا‬
‫يمـ ّدني بتفـاؤل هـ ّش‪ ،‬حتـى أصبحـ ُت مثـل مـا يقـول الشـاعر الراحـل‬          ‫أخـي‪ ،‬لا نتكلّـم اللغـة العربيـة هنـا‪ ،‬لقـ ْد خلّفـ ُت ك ّل هـذا ورائي‪ .‬نحـن‬
‫عبـد الرحمـن الأبنـودي بشـع ٍر عا ّمـي لكنـه مؤثّـر‪" :‬وتفـاؤلي بئـى‬
                                                                              ‫هنـا أميرك ّيـون‪ .‬يتو ّجـب علينـا أن نتحـ ّدث ونتـ ّرف مثـ َل الأميركيـن"‪.‬‬
                                                       ‫جـزء مـن إحباطـي"!‬     ‫مشــاعري تشــابه مشــاعر إدوارد تما ًمــا‪ ،‬وأرغــب في أنقــل تأثــر‬
                                                                              ‫هــذا الموقــف في نفســه‪" :‬كان الأمــ ُر أســوأ مــا تص ّورتــه‪ .‬ك ّل مــا‬
‫كيــف لي يــا محمــود درويــش أن أفعــل "مــا يفعــل الســجناء ومــا‬          ‫كنـ ُت أسـعى إليـه هـو اتّصـا ٌل و ّد ٌّي صـاد ٌر عـن الوطـن‪ ،‬يخـرق نسـيج‬

‫يفعــل العاطلــون عــن العمــل"؟! كيــف لي أن أربي الأمــل! أني‬                                          ‫الوحــدة والفــراق الشاســع الــذي يل ّفنــي"‪.‬‬
‫أتم ّسـك بضـو ٍء شـحي ٍح بعيـ ٍد‪ ،‬كيـف لي أن أبنـي "مـن الأنقـاض أبـرا َج‬
‫حـا ٍم قمريّـة"؟! كيـف لي أن أنسـلخ مـن حـاضري وأرتـ ّد إلى ماض ّي‬            ‫أنـا واجـ ٌم منشـطر الـذات‪ ،‬أروم السـباح َة في بحـ ٍر هائـ ٍج! هـل كان‬
‫العريـق! كيـف لي أن أسـأل نفـي‪ :‬لطفـا‪ ،‬كيـف حالـك؟ فـر ّد علي‪:‬‬                ‫ابـن بطّوطـ َة عـى حـ ٍّق حينـا هـ ّم بمغـادرة جـزر المالديـف‪ ،‬ومـ ّر‬
‫أنـا بخـر‪ ،‬وأنـت كيـف تبـدو؟ فـأر ّد‪ :‬أبـدو غارقًـا في غيمـ ٍة صيف ّيـة!‬      ‫بجزيـرة صغـرة "ليـس بهـا إلا دار واحـدة فيهـا رجـ ٌل حائـك‪ ،‬لـه زوج ٌة‬
‫أحيانًـا أجـ ُدني لا أفهـم نفـي‪ ،‬يرحـ ُل بعيـ ًدا عنـك ذلـك الآبـ ُق ثـم‬
‫تركـ ُض ورا َءه كأ ّن مصـرك معلّـق بقـرا ٍر منـه! ثـ ّم يـؤو ُب بعـد وقـ ٍت‬   ‫وأولاد ونخيـات نارجيـل وقـارب صغـر يصطـاد فيـه السـمك" يقـول‪:‬‬
                                                                              ‫"فغبطـت واللـ ِه ذلـك الرجـل‪ ،‬وودد ُت أن لـو كانـت تلـك الجزيـر ُة لي‬
                                                ‫قصـر فأجـدني لا آبـه بـه!‬
                                                                                                            ‫فانقطعـ ُت فيهـا إلى أن يأتينـي اليقـن"‪.‬‬
‫َمثــي الآن وأنــا أكتــب هــذه الكلــات ك َمثــ ِل شــا ٍّب فتــ ّي أخذتــه‬
‫الحماسـ ُة لأن يتسـلّق ق ّمـة جبَـل شـاه ٍق‪ ،‬فلـم يـزل يصعـد ويحتـال‬          ‫هـذا ابـن بطوطـة‪ ،‬سـاف َر في بـاد اللـه‪ ،‬ومـ ّرت بـه قصـ ٌص وحكايـا ٌت‬
‫في أن يضـع قدميـه في الأماكـن الصحيحـة خشـية الانـزلاق‪ ،‬ويجهد‬                 ‫والتقـى شـعوبًا وقبائـ َل‪ ،‬واغتنـى مـن التجـارب والـدروس والعـر‪،‬‬
                                                                              ‫وجمــع المــال وقابــل الملــوك والرؤســاء‪ ،‬وكان لــه خــد ٌم وحشــم‪،‬‬
‫نفســه‪ ،‬في ســبيل تحقيــق حلمــه‪ ،‬فلــ ّا بلــغ الغايــة زهــ َد في ك ّل‬
      ‫شيء‪ ،‬فأصابـه القلـق الكبـر‪ :‬كيـف ينـزل الجبـل مـ ّرة أخـرى!‬

‫أنـا غـارق في تفكـري‪ ،‬أفكـر‪ :‬كيـف يمكـن أن أسـتعيد أنـاي؟ وأظـن‬

‫الإجابــة أصعــب مــا أتوقــع‪ ،‬فــا بــ ّد لي مــن أن ألــ ّف دورة الحيــاة‬
‫مـرة أخـرى‪ ،‬حتـى أصـل إلى حيـ ُث كنـت طفـ ًا ك ّل همـه متـى تمطـر‬

                                             ‫السـاء ليلعـب مـع أقرانـه!‬
   22   23   24   25   26   27   28   29   30   31   32